و من هنا ظهر[1] : أنّ ما ذكرنا سابقاً- من اتّفاق العقلاء و العلماء على العمل بظواهر الكلام في الدعاوى، و الأقارير، و الشهادات، و الوصايا، و المكاتبات- لا ينفع[2] في ردّ هذا التفصيل، إلّا أن يثبت كون أصالة عدم القرينة حجّة من باب التعبّد[3] ، و دون إثباتها[4] خَرطُ القَتاد.

و دعوى[5] : أنّ الغالب اتّصال القرائن، فاحتمال اعتماد المتكلّم على القرينة المنفصلة مرجوح لندرته[6] .

مردودةٌ: بأنّ من المشاهد المحسوس تَطَرُّق التقييد و التخصيص إلى أكثر العمومات و الإطلاقات مع عدم وجوده في الكلام، و ليس[7] إلّا لكون الاعتماد في ذلك كلّه على القرائن المنفصلة، سواء كانت منفصلةً عند الاعتماد كالقرائن العقليّة و النقليّة الخارجيّة، أم كانت مقاليّةً متّصلة لكن عرض لها الانفصال بعد ذلك؛ لعروض التقطيع للأخبار، أو حصول التفاوت من جهة النقل بالمعنى[8] ، أو غير ذلك، فجميع ذلك ممّا لا يحصل الظنّ بأنّها لو كانت لَوَصَلَت إلينا[9] .

مع إمكان أن يقال: إنّه لو حصل الظنّ لم يكن على اعتباره دليلٌ خاصّ. نعم، الظنّ الحاصل في مقابل احتمال الغفلة الحاصلة للمخاطب أو المتكلّم ممّا أطبق عليه[10] العقلاء في جميع أقوالهم و أفعالهم.

هذا غاية ما يمكن من التوجيه لهذا التفصيل.

و لكنّ الإنصاف: أنّه لا فرق في العمل بالظهور اللفظيّ و أصالة عدم الصارف[11] عن الظاهر بين من قُصد إفهامه و مَن لم يُقصد؛ فإنّ جميع‌ ما دلّ من إجماع العلماء و أهل اللسان على حجّية الظاهر بالنسبة إلى مَن قُصد إفهامُه، جارٍ في من لم يُقصد؛ لأنّ أهل اللسان إذا نظروا إلى كلامٍ صادرٍ من متكلّمٍ إلى مخاطب، يحكمون بإرادة ظاهره منه إذا لم يجدوا قرينةً صارفةً بعد الفحص في مظانّ وجودها، و لا يفرّقون في استخراج مرادات المتكلّمين بين كونهم مقصودين بالخطاب و عدمه، فإذا وقع المكتوب الموجّه من شخصٍ إلى شخصٍ بيد ثالث، فلا يتأمّل في استخراج مرادات المتكلّم من الخطاب الموجَّه‌ إلى المكتوب إليه، فإذا فرضنا اشتراك هذا الثالث مع المكتوب إليه فيما أراد المولى منه‌، فلا يجوز له الاعتذار[12] في ترك الامتثال بعدم الاطّلاع على مراد المولى، و هذا واضحٌ لمن راجع الأمثلة العرفيّة.

هذا[13] حال أهل اللسان في الكلمات الواردة إليهم، و أمّا العلماء[14] فلا خلاف بينهم في الرجوع إلى أصالة الحقيقة في الألفاظ المجرّدة عن القرائن، الموجّهة من متكلّمٍ إلى مخاطب، سواء كان ذلك في الأحكام الجزئيّة، كالوصايا الصادرة عن الموصي المعيّن إلى شخص معيّن، ثمّ مسّت الحاجة إلى العمل بها مع فقد الموصى إليه؛ فإنّ العلماء لا يتأمّلون في الإفتاء بوجوب العمل بظاهر ذلك الكلام الموجّه إلى الموصى إليه المفقود. و كذا في الأقارير.

أم كان في الأحكام الكلّيّة، كالأخبار الصادرة عن الأئمّة عليهم السّلام‌ مع كون المقصود منها[15] تفهيم مخاطبيهم‌ لا غير؛ فإنّه لم‌ يتأمّل أحدٌ من العلماء في استفادة الأحكام من ظواهرها معتذراً بعدم الدليل على حجّية أصالة عدم القرينة بالنسبة إلى غير المخاطب و من قُصد إفهامه.