< قائمة الدروس

الأستاذ السيد مجتبی الحسيني

بحث التفسیر

45/10/22

بسم الله الرحمن الرحیم

 

الموضوع: التفسير الموضوعي/الآيات المصدرة بيا ايها الناس /الآية 21-22 من سورة البقرة

 

﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلاَ تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾[1]

فی الجلسة الأولى القينا نظرة سريعة شاملة على هذه الآية المباركة في مفرداتها وبعض رسالاتها واليوم نريد ان نكمل بحثنا حول العبادة واقسامها واشكالها فينبغي لنا ان ننتبه الى ان العبادة ليست حصرا على قراءة القرآن والدعاء والصلاة بل لها فسحة واسعة ونحن نستمد في هذا المجال مما ورد من اهل البيت عليهم السلام حول بيان حقيقة العبادة:

عن الکلینی بسنده عَنْ مُعَمَّرِ بْنِ خَلَّادٍ قَالَ: "سَمِعْتُ أَبَا الْحَسَنِ الرِّضَا عَلَيْهِ السَّلَامُ يَقُولُ: "لَيْسَ الْعِبَادَةُ كَثْرَةَ الصَّلَوةِ وَالصَّوْمِ، إِنَّمَا الْعِبَادَةُ التَّفَكُّرُ فِي أَمْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلّ "َ. [2]

وروى الكليني بسنده: عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي نَصْرٍ، عَنْ بَعْضِ رِجَالِهِ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: "أَفْضَلُ الْعِبَادَةِ إِدْمَانُ التَّفَكُّرِ فِي اللَّهِ وَفِي قُدْرَتِهِ". فكل العالم بما فيه الصغير والكبير وما في الأرض وما في السماء من الماديات والمعنويات ومن الجمادات والنباتات والحيوانات بجميع اشكالها وانواعها كلها آيات عن قدرة الله وعلمه وحكمته ورحمته ووحدانيّته وكلها حاكية عن صفات الجلال والجمال ولعل قوله تعالى: ﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْ‌ءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلٰكِنْ لاَ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً﴾[3] يفيد هذا المعنى.

هنا أودّ ان نقف حول تسبيح الله بحمده والمراد منه: كثير ممن رأيت من المترجمين والمحققين يترجمون ما نقوله في ذكر الركوع والسجود من قولنا "سبحان ربي العظيم وبحمده: او "سبحان ربي الأعلى وبحمده" أي اسبح ربي واحمده، والذي يطرأ ببالي لو اريد ذلك لكان الأولى ان يأتي بواو العطف وهو غير موجود كما في الآية المبحوث عنها حيث ورد ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْ‌ءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ﴾ والظاهر ان الباء للسببية أي نسبحه بواسطة حمده فان الحمد هو نسبة جميع الكمالات بربنا تعالى والكمالات أمور وجودية، وهي التي تسمى بالصفات الجمالية وفي مقابلها الصفات الجلاليّة أي ما نفاه بانه اجل من تلك الأمور وهي الأمور عدمية، والتسبيح هو تنزيه الله عن كل نقص و فقد فنحن اذا نثبت لربنا صفات الجمال، مثلا عند ما نقول انه قادر، فأثبنا له تعالى انه قادر على كل شيء فنفينا عنه كل ضعف، واذا اثبتنا له العدل في كل شيء فهو لا يظلم شيئا ابدا واذا قلنا انه عالم بكل شيء فقد نفينا عنه كل جهل، فبإثباتنا الجمال المطلق لربنا تعالى وتحميده المطلق جللناه عن كل نقص وفقدان، والوجود خير محض والشرور أمور عدمية فكل تحميد مثبت لجماله و ملازم لكل تسبيح تنزيهه عن كل عيب ونقص، فاثبتنا له الجلال المطلق فالحمد ملازم للتسبيح وسبب له. فتأمل جيداً.

هنا نود ان نشير الى اطوار العبادة وطرقها من خلال بعض ما ورد عن المعصومين عليهم السلام الذين كلامهم نور وامرهم رشد وقولهم الحق والصدق:

عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: "لَا عِبَادَةَ إِلَّا بِتَفَقُّهٍ".[4] ولعل هذا الحديث ناظر الى مضمون العبادة فقد يوجب الجهل ان يعمل العبد شيئا محرما ويزعمه عبادة، ونوم العالم أفضل من عبادة الجاهل، وفِي كِتَابِ الْخِصَالِ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: "مَا عُبِدَ اللَّهُ بِشَيءٍ أَفْضَلَ مِنَ الصَّمْتِ وَالْمَشْيِ إِلَى بَيْتِهِ" [5] . فالصمت حالة التفكر والتأمل والخروج عن الغفلة كما ان من يمشي الى بيت الله يتوجه قلبه أيضا الى صاحب البيت.

وَبِإِسْنَادِهِ إِلَى الْفُضَيْلِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ. "إِنَّ أَشَدَّ الْعِبَادَةِ الْوَرَع"[6] والورع حالة مستولية على النفس تمنعه عن القبائح وتحذره عن ترك الواجبات وتدفعه الى الاعمال الصالحة.

وفيما روى الكليني َبِإِسْنَادِهِ إِلَى عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ عَلَيْهِ السَّلَامُ ورد: "مَنْ عَمِلَ بِمَا افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِ فَهُوَ مِنْ أَعْبَدِ النَّاسِ."[7]

وعن عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ مَحْبُوبٍ عَنْ جَمِيلٍ عَنْ هَارُونَ بْنِ خَارِجَةَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: الْعِبَادَةُ ثَلَاثَةٌ، قَوْمٌ عَبَدُوا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ خَوْفاً فَتِلْكَ عِبَادَةُ الْعَبِيدِ، وَقَوْمٌ عَبَدُوا اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى طَلَبَ الثَّوَابِ فَتِلْكَ عِبَادَةُ الْأُجَرَاءِ، وَقَوْمٌ عَبَدُوا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ حُبّاً لَهُ فَتِلْكَ عِبَادَةُ الْأَحْرَارِ، وَهِيَ أَفْضَلُ الْعِبَادَةِ".[8]

فِي كِتَابِ مَعَانِي الْأَخْبَارِ بِإِسْنَادِهِ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ آبَائِهِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ: الْعِبَادَةُ سَبْعُونَ جُزْءاً أَفْضَلُهَا جُزْءاً طَلَبُ الْحَلَالِ [9] ."

48- فِي عُيُونِ الْأَخْبَارِ بِإِسْنَادِهِ إِلَى الرِّضَا عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: "النَّظَرُ إِلَى ذُرِّيَّتِنَا عِبَادَةٌ، فَقِيلَ لَهُ: يَا بْنَ رَسُولِ اللَّهِ النَّظَرُ إِلَى الْأَئِمَّةِ مِنْكُمْ عِبَادَةٌ أَوِ النَّظَرُ إِلَى جَمِيعِ ذُرِّيَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: بَلِ النَّظَرُ إِلَى جَمِيعِ ذُرِّيَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ عِبَادَةٌ مَا لَمْ يُفَارِقُوا مِنْهَاجَهُ، وَلَمْ يَتَلَوَّثُوا بِالْمَعَاصِي."[10]

انه تعالى بعد ما امر بعبادة الله خالقنا وخالق اسلافنا للوصول الى التقوى. أشار في الآية التي تليها الى نعم الله الكبرى ثم يتطرق الى أكبر نعم الله الذي قد يغفل الانسان عنه فقال:

﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلاَ تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾

في هذا المقطع من سورة البقرة ركّز القرآن اولاً على دعوته إلى عبادة اللّه ثم تطرق إلى أعظم نعمة تستحق الشكر للّه بسببها، وهی نعمة خلق البشر. وهي التی تتجلى فيها قدرة اللّه كما يتجلى فيها علم اللّه وحكمته وكذلك رحمته العامة والخاصّة. لأن الموجود البشري سيّد الموجودات، ومظهر علم اللّه وقدرته اللامتناهية ونعمه الكثيرة الواسعة. ثم ذكّرنا بنعمة الأرض التي جعلها فراشا لنا وهي من أعظم الآيات الكونية حيث أودع فيها قوة الجاذبة ولولا ذلك لما استقر علي الأرض شيء ولم يكن للبشر قدرة يستطيع ان يستقر عليها.

قال الامام زين العابدين عليه السّلام تعليقا على هذه الآية: "جعلها ملائمة لطباعكم، موافقة لأجسادكم ولم يجعلها شديدة الحماء والحرارة فتحرقكم، ولا شديدة البرودة فتجمدكم، ولا شديدة طيب الرّيح فتصدع هاماتكم، ولا شديدة النّتن فتعطبكم، ولا شديدة اللّين كالماء فتغرقكم، ولا شديدة الصّلابة فتمتنع عليكم في دوركم وأبنيتكم وقبور موتاكم ... فلذلك جعل الأرض فراشا لكم"[11]

وقد وصف الله السماء بالبناء فنفهم ان السماء هو امر مبنيّ وليس الفراغ بل جعله الله سقفاً محفوظاً يعلو ويستر هذه الأرض. كما صرح بهذه الحقيقة في سورة الأنبياء حيث قال: ﴿وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِها غافِلُونَ﴾.[12] فيستفاد من هذه الآية ان السماء مشتمل على آيات كثيرة قد يغفل عنها الانسان.

أن السماء بالنسبة الينا هو جهة البعد عن الأرض فسماء كل جماعة جانب من الأرض الذي يسكنون فيه، والسماء كغشاء سميك محاط بالأرض من كل جانب، فيها ملايين من السيارات والنجوم والغازات المختلفة وفيها ملايين من أمور خفية لا نعرفها، لها آثار في حياة الانسان وسائر الحيوانات والنباتات وقد اكتشف البشر بعض تلك الخصوصيات والطاقات فصنع على اثاثها وسائل للعلاقات الالكترونية في لحظة واحدة تنشر صوتاً او تصويراً فيسمعها ويراها من يعيش في ابعد أصقاع الأرض، فالاختراعات ليست الا اكتشاف طاقة واستخدامها لمصلحة من مصالح البشر.

وجزء صغير من هذه الطبقة الهوائية التي تحيط بالأرض سقف شفّاف من كل جانب، وقدرة استحكامه تفوق قدرة أضخم السدود الفولاذية، على الرغم من أنه لا يمنع وصول أشعة الشمس الحيوية الحياتية إلى الأرض. ولو لم يكن هذا السقف لتعرضت الأرض دوماً إلى رشق الشهب والنيازك السماوية المتناثرة، ولما كان للبشر أمان ولا استقرار على ظهر هذا الكوكب، وهذه الطبقة الهوائية التي يبلغ سمكها عدّة مئات من الكيلومترات تعمل على تفتيت كل الصخور المتجهة إلى الكرة الأرضية، الا شذوذ منها تستطيع أن تخترق هذا الحاجز وتصل الأرض لتنذر أهل الأرض دون أن تعكّر صفو حياتهم.

وفی هذه الآية استعرض قسما آخر من النعم الإلهية التي تستحق الشكر، وهی: ﴿وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ﴾ فنعمة المطر امر محسوس لكل البشر وقد أشار الإمام زين العابدين عليه السّلام ذيل هذه الآية الباركة ببعض ما يكون في المطر من الحكم فقال: "ينزله من أعلى ليبلغ قلل جبالكم وتلالكم وهضابكم وأوهادكم، ثمّ فرّقه رذاذا ووابلا وهطلا لتنشفه أرضوكم، ولم يجعل ذلك المطر نازلا عليكم قطعة واحدة فيفسد أرضيكم وأشجاركم وزرعكم وثماركم"

ثم قال في مختتم الآية ﴿فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ في هذا القسم من الآية إشارة الى ان معرفة التوحيد من الأمور الفطرية مثل معرفة الذات فمن يشرك بالله قد خالف وجدانه وطبيعته وأنكر ما يعرفه بقلبه.

وهنا نكتفي بهذا المقدار من الكلام ونترك البحث حول الشرك الذي نهى الله تعالى عنه للأسبوع القادم ان شاء الله تعالى.


BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo